"كان المأمون يعقد مجالس علميَّة تشبه المؤتمرات ويحضرها بنفسه، وقام بإعادةِ ترجمة بعض الكتب لما رآه فيها من ضعفٍ."
بقلم: عبدالعظيم عبدالعظيم
اهتم النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم بترجمة المُكاتبات بينه وبين اليهود بيّد مترجم أمين. قال زيد بن ثابت رضي الله عنه: أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتعلمتُ له كتابَ يهود، وقال: «إِنِّي وَاللهِ مَا آمَنُ يَهُودَ عَلَى كِتَابِي» فتعلمته، فلم يَمُرَّ بي إلا نصف شهر حتى حَذَقْتُه، فكنتُ أكتبُ له إذا كَتَبَ وأقرأُ له إذا كُتِبَ إليه، أخرجه أبو داود والترمذي، وقال الترمذي حسن صحيح. ومعنى الحديث أني أخاف إن أمرت يهودياً بأن يكتب لي كتاباً إلى اليهود أن يزيد فيه أو ينقص، وأخاف إن جاء كتاب من اليهود فيقرأه يهودي فيزيد فيه أو ينقص.
من أوائل الخلفاء الذين فطنوا إلى أن العلم يجب أن يكون عربيًا. وهو خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، المتوفى سنة 85هـ وكان من أعلم قريش. قال عنه الجاحظ في البيان والتبيين: «كان خالد بن يزيد بن معاوية خطيباً شاعراً، وفصيحاً جامعاً، وجيد الرأْي، كثير الأدب، وكان أول من أعطى التراجمة والفلاسفة، وقرب أهل الحكمة، ورؤساء كل صناعة، وترجم كتب النجوم والطب والكيمياء والحروب والآداب والآلات والصناعات».
"الدواوين" كلمة فارسية معناها سجلات حساب أموال الدولة. كان يعمل بها فقط أهالي البلاد المفتوحة في أوائل عصر الدولة الأُموية؛ فكان عمال ديوان العراق من موالي فارس، وعمال ديوان الشام من الروم وعمال ديوان مصر من الروم والقبط، وذلك لإدارة دفة الأمصار، والإدارة المالية بالتحديد، فلم يكن باستطاعة المسلمين أن يغيروا الأوضاع القائمة بين عشية وضحاها، ولأن خلق جهاز إداري جديد يحتاج إلى وقت طويل. ولم تكن قلة خبرة العرب هي الأساس في الموضوع، إذ احتاج العرب أناسًا قادرين على مخاطبة الأهالي بلغتهم فكان لا بد من استخدام من يحسن ذلك، لافتقارهم لمن كان باستطاعتهم التعامل مع الأهالي باللغة التي يعرفونها. ومن هنا بدأ استعمال العربية إلى جانب اللغات الأخرى، إذ لا بد للدولة أيضًا من معرفة ما يجرى. واتجهت الدولة في خلافة عبد الملك بن مروان ومن بعده من الخلفاء إلى تعريب الدواوين، انسجاما مع سياستها العامة في بلوغ الوحدة في مجال الفكر والثقافة والإدارة والسياسة على أساس العربية والإسلام، ومن أجل رفع مستوى الإشراف على أداء هذه الدواوين.
من الجدير بالذِّكر في هذا المقام الإشارةُ إلى تشكُّل مراكز قوى من الفُرسِ والرُّوم الذين دخلوا في ظلِّ الحضارة الإسلاميَّة، وكانوا يقومون بالمساهمة في إدارة شؤون الدَّولة والقيام بأعمال التَّرجمة؛ حيث إنَّ هذه الترجمة في البداية كانت مصدر إزعاجٍ لهم خاصة من الفرس الذين حاولوا منع تعريب الدواوين في العصر الأموي، حتى لا يؤثِّر على مكانتهم ونفوذهم بسبب احتكارهم معرفة لغتها، ثم حاولوا توجيه هارون الرشيد في عصر الخلافة العبَّاسيَّةِ إلى الأخذ بعلومهم مثل طِبِّ الِهند، للتمكين للثقافة الفارسية، ولكنهم لم يستطيعوا أن يتفوقوا على اللغة اليونانية في مجال العلوم، وظلت الفارسيةُ مؤثرةً في مجال الأدب. ومن هنا يمكن القول بأنَّ حركة الترجمة العلميَّة بدأت في القرن الأول من الهجرة.
اهتم أبو جعفر المنصور في بداية الخلافة العباسية بترجمة الطب اهتمامًا شديدًا، فاستقدم أكبر أطباء مدينة "جنديسابور" واسمه "جرجيس بن بختيشوع" وطلب منه أن يترجم له كتابًا في الطب، فقام بترجمته، ثم استدعى آخرين وطلب منهم ترجمة كتب في العلوم المختلفة ففعلوا، ومن أشهرهم ابن المقفَّع الذي طلب منه ترجمة كتب في الأدب الفارسي أشهرها كتاب "كليلة ودمنة"، ثم اتَّجه المنصور بعد ذلك لطلب ترجماتٍ لكتبٍ يونانيَّة.
قفزت الترجمة قفزة كبيرة في عهد الخليفة المأمون رحمه الله، الذي أحدث نَقلةً كبيرةً في الترجمة عن اللغات المختلفة في العديد من المجالات، حيث كان العلماء العرب يأخذون الترجمات الجديدة لكتب الفرس واليونان والمصريين والهنود وغيرهم ليطَّلِعوا على ما فيها ويناقشون ما بها من أفكار، وكان المأمون يعقد مجالس علميَّة تشبه المؤتمرات ويحضرها بنفسه لمناقشة مختلف القضايا العلمية، كما قام بإعادةِ ترجمة بعض الكتب التي سبق ترجمتها؛ لما رآه فيها من ضعفٍ، وأمر مسؤوليه في مختلف البلاد؛ مثل سوريا ومصر وأرمينيا لجلب الكتب الموجودة عندهم لترجمتها، ولم يتوقَّف الأمر عند تدخُّل الحكَّام والولاة لتنشيط حركة الترجمة مثل ما فعل المأمون، بل تجاوز الأمر هذه المساحة ليقوم الأغنياء بدعم حركة الترجمة لاهتمامهم بالعلم وتقدمه.
بالرغم من هذا الانفتاح على العلوم التي كانت عند الأمم المختلفة، تأثرت الثقافة الإسلاميَّة رغمًا عنها بفلسفات لا تنطبق عليها، وقد كان لهذا أثرًا سلبيًّا على طريقة صياغة كثيرٍ من المسائل و أدى ذلك إلى الإغراقٍ في مناقشاتٍ وافتراضات غير ذات أهميَّة، وإن كان لهذا الأمر جانبًا إيجابيًّا من ناحيةٍ أخرى حيث تَمكّن علماء المسلمين من غربلة هذه الفلسفاتِ والرَّدِّ على المخالفة منها للعقيدة الإسلاميَّة وإثباتِ تهافتها، بل والاستفادة من البعض الآخر الذي لا يتعارض مع عقيدة التوحيد في منهجية التفكير العلمي.
على صعيدِ العلوم المادية؛ كالطِّبِّ والحسابِ والفلك وغيرها، تمكَّن العلماءُ المسلمون من استيعاب ما توصَّل إليه علماءُ الحضاراتِ الأخرى، وتفوَّقوا عليهم وقدَّموا إسهاماتٍ علميَّة مذهلة تخطَّت المستويات التي وقفت عندها هذه العلوم عند الأمم الأخرى بمسافة كبيرة، وصارت هذه العلومُ عربيَّةً من حيث طريقةُ صياغتها باللغة العربية والبيئة العربية الحاضنة لها وتأثرها بثقافة العرب، ولم يعد الأمر كما صار الآن مجرَّد تلقٍّ من الآخرين لما ينتجونه، سواء كنا في احتياج إليه أم لا.
بعد تقدُّم المسلمين العلمي الهائل في مختلف المجالات، ونمو الدَّولة الإسلاميَّة الكبير، وانتشار اللغة العربية في أصقاع العالم المختلفة، سعت الأمم الأخرى للترجمة عن العربية للاطلاع على هذا التقدم الهائل الموجود لدى العرب والمسلمين، فصار تعلُّم اللغة العربيَّة من أساسيات الثقافة والعلم عند غير العرب، وسافر العديد من طلاب العلم والباحثين والأمراء من أوروبا وغيرها لحواضر العالم الإسلامي للتعلُّم والاطلاع على ما لدى المسلمين من مظاهر التقدُّم العلمي والثقافي والحضاري.